السياسات العمومية للإعلام في تونس : بين المأمول والواقع
لطالما كان السؤال حول السياسات العمومية للإعلام سؤالا مركزيا يشغل بال القائمين على القطاع ويقض مضجعهم . قطاع تتدخل فيه الدولة بآلية التعديل كونه أحد أهم القطاعات في تونس رفقة الصحة و التعليم و الاتصال. أثر إجراءات 25 جويلية الاستثنائية و قرارات الرئيس قيس سعيد التي أثارت حالة ترقب لدى الشارع التونسي ولدى شركاء تونس في الخارج بشأن مصير الانتقال الديمقراطي المتعثر في البلاد منذ سنة 2011 ، تحولت وضعية قطاع الإعلام والصحافة من قطاع مهمل إلى قطاع أكثر تهميشا بل و يواجه خطر العودة إلى الوراء ، أي العودة الى سنوات الاستبداد ما قبل ثورة 2011 . في هذا الإطار ، تعتبر الهياكل النقابية للمهنة أن حرية الصحافة تواجه ما سمته ب” الخطر الداهم”. إذ أنه في كل ظهور لرئيس النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين محمد ياسين الجلاصي ، يؤكد نقيب الصحفيين التونسيين على أن قطاع الإعلام يعيش حالة من الضبابية في ظل سياسة غير فعالة مشددا على ضرورة حماية حرية التعبير و الصحافة من التجاذبات السياسية و أصحاب المال . السياسة العمومية الضعيفة و غير واضحة الملامح جعلت قطاع الإعلام مستباحا من قبل كل من هب و دب إلى أن حاد عن أدواره المركزية في حياة المواطن التونسي، و الذي يأمل من الإعلام تزويده بالأخبار و الأفكار و الآراء إلى جانب تثقيف و الترفيه عنه بعد عناء يومه . ليصير أكبر خطر على المواطن و الذائقة العامة بالنظر إلى ضربه بالأخلاقيات المهنية عرض الحائط و دخول عالم الابتذال و جعل الكسب المادي أولوية لا يعلى عليها .
مفهوم السياسات العمومية للإعلام
يعرف “قامـوس السياسـات العموميـة، “السياسـة العموميـة باعتبارها”ظاهــرة اجتماعيـة وسياسية مخصوصة قائمــة علــى مقتضيات عمليــةومقاربــات تحليليـة فــي ســوق بخصــوص”. ويمكـن أن نعــرف أيضــاالسياســة العموميـة باعتبار هــا » برنامج يــا حكوميـا فــي مجــال معيــن أو فــيفضــاء جغرافي « يحيل مصطلح السياسات العمومية لقطاع الإعلام على الاستراتيجية المتبعة من قبل الدولة التونسية بمعية الهياكل المهنية على المدى القصير و المتوسط و البعيد . وذلك لرسم خارطة طريق تبسط أرضية ملائمة لممارسة المهنة و تراعي في الآن ذاته جودة المضامين الإعلامية و ديمومة المؤسسة الاعلامية سواء كانت عمومية أو خاصة ، سمعية بصرية او مكتوبة أو إلكترونية . وجود ترسانة من التشريعات التعديلية التي تضمن حرية التعبير و الرأي و الإعلام و تحقق ديمومة المؤسسات الإعلامية ماليا واقتصاديا مع تنظيم المساعدات العمومية و الإشهار من جهة و الكرامة المهنية للصحفي حتى يبدع و يتميز في مجال عمله . تقتضي السياسة العمومية برنامجا حكوميا يتسم بالعملية و القدرة على التغيير . كما تتحمل الدول بموجب القانون الدولي مسؤولية إرساء أرضية قانونية عبر تشريعات تنظم القطاع و تنظيمية عبر الهياكل التعديلية على غرار الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي و البصري ، و ذلك من أجل تطور مشهد إعلامي حر و نزيه شفاف يضمن التعدد و التنوع والمنافسة الإعلامية النزيهة.نظمت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين في 10 ديسمبر 2019 ورشة تحضيرية للمنتدى الوطني الأول للسياسات العمومية في قطاع الإعلام . هذه الورشة ضمت ممثلين عن كل مؤسسات الإعلام العمومي و النقابات المهنية الى جانب ممثلين عن رئاسة الحكومة وهيئة التعديل ممثلة في شخص الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري الهايكا و مجلس الصحافة . في ضوء هذه الورشة وقعت الدعوة لفتح باب النقاش حول أدوار الحكومة في قطاع الإعلام وكيفية تنفيذ السياسة العمومية ومتابعتها .
مرور عسير من الإعلام الحكومي إلى الإعلام العمومي
كانت المؤسسات الاعلامية قبل ثورة 2011 سلطة يتحكم بها الحاكم يخضعها لصالحه جاعلا منها آلية دعاية تدعم وجوده على رأس السلطة . كان الصحفيون الذين يصدحون بصوت الحق يلاحقون بسبب أفكارهم وآرائهم كما تتم مراسلتهم داخل مؤسساتهم . وضع حرية التعبير في تونس كان كارثيا بكل المقاييس ، إذ أن تطويع الإعلام لخدمة مآرب السلطة سبب خللا وظيفيا جعل من القطاع خانعا و ذو دور محدود لا يعدو كونه مجرد أداة فاقدة لكل شكل من أشكال الحرية ، فمثلا كانت النشرات الإخبارية النوفمبرية نقلا لتحركات وإنجازات الرئيس السابق وحاشيته . كانت ملكية وسائل الإعلام عمومية أو خاصة بيد النظام السياسي القائم . و في غياب الاستقلالية و التعددية و التنوع لم يكن بوسعنا رؤية مشهد اعلامي حر و نزيه و شفاف ينهض بدوره في نقل المعلومة بكل مصداقية بعيدا عن التعتيم ما يجعل المواطن غير قادر على ممارسة مواطنته و فهم الوضع العام لاخضاع السلطة للمحاسبة . أثر الثورة سنة 2011 ظهرت بوادر انفراج عبر اهتمام ، و لو أنه اهتمام محدود، بوضعية القطاع الإعلامي و بضرورة تحريره من الممارسات القمعية و تفعيل دورها في بناء فكر شعب قادر على الاختيار بحرية ووعي . تدعم هذه الإرادة السياسية بمجموعة من التشريعات الداعمة لحرية التعبير مثل الفصل 31 و 32 و الفصل 49 الذي يحدد ضوابط هذه الحرية الخمسة و هي حماية حقوق الغير و مقتضيات الأمن العام والدفاع الوطني و الصحة العامة والآداب العامة ، بالإضافة إلى المراسيم 115 و 116 المؤرخين في 2 نوفمبر 2011 و اللذان حددا حقوق الصحفيين وواجباتهم إلى جانب حقوق الجماهير التي يجب على الصحفي والمؤسسة الإعلامية مراعاتها . تدعم هذه الترسانة القانونية بإحداث هيكل ذو شخصية عمومية وهي الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي و البصري و التي تقوم بتنظيم قطاع الإعلام السمعي البصري وتعديله وضمان تعدده وتنوعه وتوازنه واستقلاليّة وسائله، وتسهر على ضمان حرية التعبير في إطار احترام الضوابط القانونية. كما تسهر على دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون. تشهد تونس منذ 25 جويلية 2021 أزمة سياسية عميقة بدأت منذ إعلان الرئيس قيس سعيّد اتخاذ إجراءات استثنائية منها إلغاء دستور 2014 و تجميد اختصاصات البرلمان برفع الحصانة عن نواب، وإصدار تشريعات بمراسيم رئاسية مع إلغاء هيئة مراقبة دستورية القوانين، ، و ترؤسه للنيابة العامة، وإقالة رئيس الحكومة، وتشكيل أخرى جديدة عَيَّنَ هو رئيستها نجلاء بودن .و قد تراجعت تونس بـ21 مرتبة في التصنيف العالمي لحريّة الصحافة حسب التقرير السنوي الذي نشرته منظمة مراسلون بلا حدود اليوم الثلاثاء 3 ماي 2022 بالتزامن مع اليوم العالمي لحرية الصحافة فقد تقهقرت من المرتبة 73 إلى 94 عالميا (من أصل 180 دولة).
رؤية إصلاحية غائبة
تعاني البلاد التونسية منذ بزوغ فجر الجمهورية من غياب إصلاحات فعالة تشمل كل المجالات . ذلك أن الإصلاح ملكة لا يتقنها السياسيون التونسيون ، فأكملوا المشاريع الإصلاحية و غاصوا في معترك التجاذبات الايديولوجية و السياسية و التي عجلت بتدهور أحوال الشعب التونسي مع مختلف القطاعات الهشة أساسا . قطاع الاعلام لم يسلم من الأزمات كما لم يسلم أيضا من غياب رؤية اصلاحية عن الحكومات المتعاقبة بسرعه تقريبا تغيرت الحكومة منذ 2011 11 مرة أي بمعدل حكومة لكل سنة . عدم الاستقرار السياسي حال دون استمرار الدولة و برامجها . أزمة قطاع الإعلام متعددة الأوجه و قد تشعبت أكثر فأكثر في هذه الفترة الحرجة و التي تمر بها تونس . و اصلاح الاعلام مسؤولية تلقى على عاتق الدولة بمختلف مؤسساتها في المقام الأول و الهياكل المهنية في المقام الثاني،و التي تطالب بتحويل عملية الاصلاح هذه الى مطلب سياسي أساسي .
أزمة القطاع تنادي بالتسريع في اعتماد سياسة عمومية
تتعدد مؤشرات أزمة الصحافة التونسية ما يطلب التعجيل بوضع استراتيجية لحل المشكلات المتفاقمة أو التقليل منها . تظهر الأزمة في عدة أشكال منها انحدار الصحافة المكتوبة و تقهقرها أمام الإعلام السمعي و البصري و خاصة المنصات الالكترونية و التي تشكل تهديدا فعليا لوجودها . ديمومة الصحف المكتوبة أصبحت على المحك بسبب أزمة التمويل العمومي والهشاشة الاقتصادية التي تعاني منها المؤسسات الاعلامية أدت الى تدهور أحوال الصحفيين و الصحفيات العاملين بهذه المؤسسات ،حتى المؤسسات السمعية و البصرية لم تعد بمعزل عن هذه الهشاشة . لذلك أصبحت المساعدات العمومية مطلبا مفصليا لديمومة المنشآت الإعلامية و بقاءها.تعرف منظمة المادة 19 المساعدات العمومية على أنها نظام من الإعانات تحصل المنشآت الإعلامية الخاصة من خلالها على دعم ّ مالي مباشر أو على إعفاء ضريبي من الحكومة و عادة ما تسهر على تسييره هيئة مستقلة أو شبه مستقلة.بسبب عدم تفعيل مشروع قانون يقضي بإحداث الوكالة الوطنية للتصرف في الإشهار العمومي و الاشتراكات ، أغلقت عدة صحف أبوابها . ربما تتسائل حاليا عن احصائيات دقيقة عن الموضوع لكن في الغياب الفعلي للوكالة الوطنية للتصرف في الإشهار العمومي و الاشتراكات ، لا نستطيع الحصول على أرقام مجدية.تقوم الوكالة بحوكمة الإشهار العمومي استنادا إلى طرق موضوعية تحقق مبدأ الإنصاف كما تضمن حسن التصرف في المال العام وتشجيع قطاع الصحافة المكتوبة والإلكترونية في الآن ذاته .
إن المشهد الإعلامي في تطور مستمر سواء إلى الأمام أم إلى الخلف و في غياب الإطار التشريعي و المؤسساتي أصبح التطور متجها الى الخلف . حتى ان مساعدات الدولة تتعارض مع المعايير الدولية فتمس من حرية التعبير . يعزى خوف الهياكل المهنية الهايكا و مجلس الصحافة ونقابة الصحفيين على حرية التعبير الى تأثير المساعدات المالية العمومية و قدرتها على بسط سيطرة المال السياسي على المؤسسات الاعلامية و عودة الاعلام تحت جناح النظام السياسي كما في السابق.
مضامين إعلامية مبتذلة
إبان الثورة وبعد بعث قناة تلفزية خاصة ، تنامي الإنتاج الإعلامي للمضامين الموجهة للجماهير بمختلف فئاتها ، هذه المضامين و التي من المفروض أن تراعي متطلبات المجتمع باعتباره الهدف الاستراتيجي للعملية الاتصالية و تقدم له مضمونا ذو جودة . و البرامج الاعلامية أيا كانت وسيلة بثها ،تمثل العنصر الأساسي الذي يكون الشبكة البرامجية للمحطة الاذاعية او التلفزيونية و مجموع هذه البرامج يجسد هوية المحطة . الشبكة البرامجية هي فن الوصول الى المتابع لذلك فهي تعتمد تقنية التخطيط العقلاني المسبق القائم على دراسات تحليلية مع ارادة المؤسسة الاعلامية و بيان أهدافها .منطلق هذه الدراسات هو نظريات الاعلام و الاتصال و التي تمثل ارضية لدراسة تأثيرات وسائل الإعلام على الجماهير و طرق تقبل المتابعين للرسائل الاعلامية . في غياب التخطيط لا يمكن الحديث بأي شكل من الأشكال عن مضمون ذو جودة . و إن ما نتابعه هذه الأيام من خلل وظيفي في أدوار الاعلام يجعل من الإعلاميين لقمة سائغة للمتنمرين في شبكات الميديا الجديدة . البرامج التلفزيونية في القنوات لم تعد ترتقي لمستوى تطلعات المواطن فأصبحت تنشر الابتذال و مضامين الصحافة الصفراء الباحثة عن الأخبار الساخنة التي لا تسمن ولا تغني من جوع . و في ظل تعاظم دور الكرونيكور فقدت البرامج السمعية و البصرية بريقها و لم تعد قادرة على احترام الرأي العام . و هذا ما جعل من أخلاقيات المهنة الصحفية مجرد حبر على ورق . الكرونيكور بات صيحة سريعة الانتشار يتهافت عليها فنانون و ممثلون معروفون ليست لهم علاقة بمجال الاعلام و الاتصال بتاتا . و من أجل نسب المشاهدة ، دخل الكرونيكور عالم الابتذال من أوسع أبوابه ،إما من خلال التهريج أو الاساءة للأخلاق الجماعية . حتى المضامين غير الترفيهية و التي تكتسي طابعا جديا ،أصبحت هي الأخرى حلبة صراع التجاذبات السياسية و منها من انتهى به الأمر في المحاكم جراء قضايا الثلب و الشتم و جلس المتابع يشاهد التراشق بالاتهامات و التلاسن الحاد بين سياسيين وسط حلقات حوارية للنقاش.
صناعة البرامج في المؤسسات الاعلامية الخاصة على اختلاف أهدافها ومضامينها لم تصل الى أدنى المستويات الموجودة في الغرب .
كما أن نسب المشاهدة العالية التي تحققها برامج المؤسسات الخاصة تضع ضغطا إضافيا على المؤسسات العمومية التي و إن تحترم ضوابط المهنة وأخلاقياتها إلا أنها أيضا مطالبة بتقديم برمجة متنوعة تتشارك فيها مختلف الأطراف لتكون السياسة التحريرية واضحة الملامح و لا تتخذ بفردانية . النهوض بقطاع الإعلام يحتم على القائمين عليه الحكومة و هياكل مهنية تطوير التكوين في مجال الإعلام و الاتصال و ليس الاقتصار على دورات تدريبية في غياب تطبيق المكتسبات .و إن الأساس العلمي و الأكاديمي يمكن أن يكون منطلقا أساسيا لتحديد الإشكاليات المتعلقة بالقطاع و أخلاقياته و آليات التعديل و التعديل الذاتي و من ثم خلق الحلول.
وسيم الجملي
المراجع و المصادر
- -المادة 19 “موجز عن سياسات مساعدات الدولة للصحافة الورقية”، ،2012ص4.
- -هالة بن علي، « الصحافة الورقية في تونس ورهانات البقاء» في الصحافة المكتوبة، أزمة أم تحولات؟ وقائع ندوة دولية نظمها معهد الصحافة وعلوم الاخبار ومؤسسة كونراد اديناور ، تونس ،2016
- – حسن توفيق إبراهيم: ظاهرة العنف السياسي في النظم العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، سلسلة أطروحات الدكتوراه 17، بيروت 1990
- -غادة ممدوح ، العنف الإعلامي .. سيكولوجية العدوان نفسيًا واجتماعيًا ،مصر، العربي للنشر و التوزيع , ، دراسات في الإعلام 2019
- -عبد الرحمان العيسوي: سيكولوجية عنف الطفولة والمراهقة ،دار النهضة العربية، لبنان 1997
تجدر الإشارة إلى أنه تم إنجاز هذا العمل الصحفي في إطار مشروع "دعم دور الإعلام في الدفاع عن الحريات والمساواة في تونس Media Act" برعاية وزارة الخارجية الأمريكية وبتمويل من الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية ميي وبتنفيذ إيركس.